لوحة المستقبل

**بلمامون** · 02/01/2010

لوحة المستقبل

قيل أن الطفل هو أب الرجل ، ومعنى هذا أنه في داخل كل طفل في حاضرنا توجد صورة الرجل الذي سيكونه في المستقبل ، وقد جرت عادة أهل الفن أن جمال الصورة يكمن في مدى مقدرة الفنان على جعل ألوانها و أبعادها و خطوطها في تناسق إبداعي شكلا يصنع شعورا بتميزها و جمالها في نفوس الآخرين ، فالفنان هنا ينتج الشعور بالجمال ، وما اللوحة إلا واسطة بين مبدعها وهذا الشعور الجديد المتولد إزاءها .
كما أن قاعة المعارض قد تغص باللوحات الفنية ، ومع ذلك فإن عملا فنيا واحدا أو اثنان منه ، هو مجموع ما يستحوذ على انتباه الناظرين ، و يستقطب إعجابهم . فيكون حظه من الثناء و الذكر الجميل ما ينسي الاهتمام بغيره . و لا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لإنتاج الشعور بالجمال من خلال إتقان صناعة الإنسان انطلاقا من مكانها و زمانها التربوي .
ولما كانت أحداث الطفولة هي التي تُحدد ملامح رجال المستقبل ، وهذه الأحداث لا تصنع نفسها بنفسها ، بل لريشة المربي الفنان ـ في الحاضرـ الدور الفاعل في تشكيل ألوانها وتأليف عناصرها ، فإنها إذا ما دخلت معارض المستقبل صارت هذه الطفولة مثل اللوحة عنوانا بارزا لا يصنع شعورا في نفوسنا بالجمال فحسب بل شعورا بالتفوق ،و المباهاة بالقوة والتميز ، تماما كالنشوة الجماعية التي يصنعها فريق رياضي من أجل دولته ، فيكون الشعور بالنصر أو الهزيمة لا يخص هذا الفريق ، بقدرما يكون استجابة متوازية للأفراد قاطبة .
و قد يقول قائل: ما دخل المربي الفنان في صنع الأشخاص ، فالتاريخ يكشف لنا عن عصاميين تخرجوا من معاهد أنفسهم فانتفع الناس بصنيعهم ؟ فنرد : ما الذي صنع عصاميتهم أليس التجارب التي أخرجتها معاهد غيرهم ، قرأوها ففهموها فصارت نموذجا لتميزهم ، إذن فعلى عاتق المربي الفنان ـ وحده دون غيره ـ شكل العمل الفني الذي ستتراءى معالمه في مستقبلنا .
فالطفل لوحة خالية من محتواها ، والخطوط ، و الألوان إنما تأتيها من خارج ذاتها ، فمن عدم الصواب أن نتهم هذه اللوحة بفقدان قابليتها على التشكل و التلون ، لأن وجودها مع الفنان في قاعة الرسم يكفي لأن تكون قابلة للرسم عليها . و إذا كان سؤالنا هو عن طبيعة هذا المحتوى الذي يجعل من أطفالنا نماذج في مستقبلهم ، فإن جوابنا لا يتمثل في قيمة ما نقدمه لهم من زاد معرفي و تربوي فحسب ، بل أن نستشعر ـ أثناء تقديمنا لهذا الزاد ـ النتيجة و هي ماثلة أمامنا ، بألوانها و مناظرها و أبعادها ، و مدى تباهي الآخرين ـ في الحاضر القادم ـ بها ، و أن نجعل من هذا الشعور هو الشكل الوحيد الذي يحضرنا في كل لحظة من لحظات الرسم على هذه اللوحة ، لأننا ـ كما يرى وليام جيمس ـ إذا أبدينا اهتماما كافيا بنتيجة فمن المؤكد أن نصل إليها ، و هذه النتيجة ستكون ماثلة أمامنا في مستقبلنا شئنا أم أبينا ، فإذا أعفينا أنفسنا من التفكير في مستقبل الآخرين لحظة قيامنا بواجبنا ، نكون قد فرطنا في واجبنا ، و تفريطنا معناه أننا نحصد أضراره قبل أن يحصده المجتمع ، فلا يروقنا كأفراد أن نرى الميوعة و الانحلال في المجتمع ، و لا يعجبنا أن تكون الرداءة هي عنوانا لمنتجاتنا ، كما نرفض أن يتولى شؤوننا السياسية و الإقتصادية من هم أجهلنا ، و أن يتكلم الرويبضة في مجمعنا بدلا عن أعلمنا ، إذا فهذه نماذج سيئة للوحات نراها في معارض واقعنا في الحاضر ونقول في أنفسها إزاءها :إنها ليست من التربية في شيء ، فهي تصنع شعورا بالقبح في أنفسنا ، وهذا الشعور إذا استمر و تفاقم تولد عنه شعورا آخر لا يقل خطورة عنه وهو التشاؤم الذي من آثاره الفعلية أن تخيم الرداءة على الفكر و القول والعمل .

بقلم المعلم : بوشويحة بوحركات
بتاريخ : 5 محرم 1431 الموافق 23 ديسمبر 2009 على الساعة 9:55

لوحة المستقبل

لوحة المستقبل

Create an account or log in to leave a reply

Create an account

Log in